سلسلة حلقات في الفكر المالي
(للنبي ﷺ، والخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز رضوان الله عليهم)
بقلم الدكتور سمير الشاعر
تميز الفكر المالي من بدء الدعوة المحمدية بأنه واكب واقعها وتطور أحداثها، فقد عرف الفكر المالي الإسلامي الثبات في أحكامه الكلية وأهدافه، مع مواكبة التطور في التنفيذ والتطبيق، فكانت الطبيعة المالية صفة من صفات البيئة المعاشة، شدة ورخاء، ضيقاً وسعةً. فالطبيعة المالية لعهد النبي ﷺ اختلف باختلاف مراحل الدعوة، فما كان من ضيق قبل الهجرة، نراه أوسع بعدها. وما كان من تراجع في بداية عهد أبي بكر ”رضي الله عنه” انقلب إلى عود الأمور لنصابها بعد حروب الردة وحرب مانعي الزكاة، وما كان من محدودية في المالية استهل بها عمر بن الخطاب ”رضي الله عنه” عهده نرى الخزائن الممتلئة بالأموال في نهاية عهده، أما تفرقة الأموال التي افتتح بها عثمان ابن عفان ”رضي الله عنه” عهده واكبتها بحبوحة أودت بحياته، مما نبه خلفه علي بن أبي طالب ”رضي الله عنه” إلى العود إلى سيرة الخليفة الثاني في تداول وتناول الأموال مع الرعية، فاتخذت ذريعة جديدة في الثائرة على الخليفة الرابع رضوان الله عليه، وكانت الفتنة التي نعاني من آثارها حتى يومنا هذا.
الحلقة الثالثة
الفكر المالي في عهد عمر بن الخطاب ”رضي الله عنه”
قبض من قال فيه خلفه، لقد اتعب أبو بكر من بعده تعباً شديداً [1]، واستهل عمر الفاروق عهده، وقد استقر الأمر للمسلمين، فانطلقوا في فتح البلاد، ففتحت فارس ومصر وأكثر أرض الشام، وتشعبت أمور الدولة وزادت ماليتها، وتنوعت مطالبها بعد أن اتصلت بحضارات عريقة في الدول المفتوحة مما نبه عمر إلى الاستفادة بما في هذه الدول من نظم لحل المشكلات التي تواجهها الدولة الإسلامية التي امتدت أطرافها وترامت، ولتنظيم شؤونها المالية.
إن عهد عمر يختلف عن عهد سلفه، فقد فتحت الدنيا عليهم بمالها وجاهها من جهة، وبالمسؤولية عن أناس كثر تختلف عاداتهم وأساليب عيشهم عن نمط حياة الصحراء التي اعتاده المسلمين الفاتحين فقد كانت مجموعات منهم أهل حواضر ولهم طلباتهم في العيش وتنظيم شؤونهم، فقد درست الوقائع المستجدة وخاصة في الحواضر. فنرأينا توظيف القضاة والأمن والحراس، وبدأ نظام مؤسسات الدولة وظهرت الوظيفة العامة، وما رافق ذلك من مستجدات حياتية أظهرت لنا الشخصية الإدارية للخليفة الثاني لرسول الله وهو أول من لقب بأمير المؤمنين، فقد رتب الوظائف على ما يحفظ حياة الناس، وجند الجند، فانتقل من الانضمام للجهاد عفواً وحسب الاستطاعة إلى ما يسمى اليوم بالجيش، فكانت البلاد المفتوحة يلزمها أن تشحن بالجنود لحماية الثغور والدفاع عن الأراضي المترامية الأطراف ضد الغزاة والخارجين على النظام.
ويمكن سرد مجموعة من الإنجازات المسجلة لعهد عمر الفاروق، ومنها:
- أنشأ عمر بيت المال، وهو أول من وضع الدواوين [2]. وسبب التدوين هذا ، أن أبا هريرة ”رضي الله عنه” قال : قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم فأتيت عمر بن الخطاب ”رضي الله عنه” فسألني عن الناس فأخبرته ثم قال لي: ماذا جئت به؟ جئت بخمسمائة ألف، قال: ويحك! هل تدري ما تقول؟ قلت: نعم مائة ألف خمس مرات. قال: إنك ناعس، ارجع إلى أهلك، فنم، فإذا أصبحت فائتني، فلما أصبحت أتيته، فقال: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف. قال: ويحك! هل تدري ما تقول؟! قلت: نعم، مائة ألف، حتى عدها خمس مرات، يعدها بأصابعه الخمسة، قال: أطيب؟ قلت: لا أعلم إلا ذلك. قال: فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم أن نكيلكم كيلاً، وإن شئتم أن نعدكم عداً. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدونون ديواناً لهم. فاشتهى عمر ذلك، وقد استشار عمر”رضي الله عنه” المسلمين في تدوين الدواوين، فأشار بعضهم عليه بما يراه وقيل أنه الوليد بن هشام بن المغيرة، قال جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديواناً وجندوا جنداً، فدوّن ديواناً وجنّد جنداً. وفي بعض الروايات أن الذي أشار بذلك خالد بن الوليد ”رضي الله عنه”، وأنشأها على مثال دواوين الروم والفرس، وقد دونها عقيل بن أبي طالب ”رضي الله عنه”، ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نبهاء قريش. وأرجح الروايات في تدوين الدواوين أنه تم في سنة عشرين للهجرة المباركة، كما جاء في مقدمة ابن خلدون [3].
- أهم الدواوين التي أنشأها عمر”رضي الله عنه”“ديوان العطاء”، كان عمر”رضي الله عنه” حين أراد وضع الديوان قال للصحابة من مستشاريه: بمن نبدأ فقال له عبد الرحمن بن عوف ابدأ بنفسك، فقال عمر أذكر أني حضرت مع رسول الله ﷺ، وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطلب فبدأ بهم عمر وبمن يليهم من قبائل قريش بطناً بعد بطن حتى استوفى جميع قريش ثم انتهى إلى الأنصار، وبدأ برهط سعد بن معاذ من الأوس، إلى أن استقر الناس في الديوان على قدر نسبهم المتصل برسول الله ﷺ.
- وقد فاضل عمر في العطاء بين الناس بحسب أسبقيتهم إلى الإسلام وكان أبو بكر”رضي الله عنه”قد سوى بين الناس في العطاء ورفض التفضيل بينهم، ولكن الخليفة عمر”رضي الله عنه” سار في تقسيم الأموال على خلاف ما سار عليه أبو بكر في هذا الشأن، (فلم يساو في العطاء) حيث قسم عمر أعطياتهم على حسب أسبقيتهم إلى الإسلام والفضل في الجهاد ونصرة رسول الله ﷺ، متيمناً قوله تعالى: ” لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا” [4]، وقوله: ” لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى” [5]، ولذلك قسَّم عمر”رضي الله عنه” الناس في العطاء على النحو التالي:
ـ ذوو السوابق الذي بسابقتهم حصل المال .
ـ من يغني المسلمين في جلب المنافع لهم كولاة الأمور والعلماء الذين يجلبون لهم منافع الدين والدنيا.
ـ من يبلي بلاءً حسناً في رفع الضر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الجنود والعيون والناصحين نحوهم.
ـ ذوو الحاجات .
- رتب الجندية عملاً دائماً وأصبح الجند يحاربون ويرابطون في الثغور وعلى الحدود، ولا بد من الإنفاق عليهم وعلى ذويهم نفقات مرتبة منظمة.
- أنشأ فروع لديوان المدينة في كل من العراق والشام ومصر [6]، وبجانب هذا الديوان العربي كانت تقوم الدواوين المحلية التي تركت في العراق والشام ومصر كما كانت قبل الإسلام، وقد استبقى عمر هذه الدواوين بموظفيها ولغاتها، فكان ديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وديوان مصر باليونانية، وإنما أبقى عمر هذه الوظائف في غير المسلمين لأن الفاتحين كانوا عرباً أميين، لا يحسنون الكتابة والحساب.
- عودة عمر عن طريقته في توزيع المال، فقد ذكر أبو يوسف “أنه لما رأى (عمر بن الخطاب) أن المال قد كثر قال لئن عشت إلى هذه الليلة من قابل لالحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا في العطاء سواء” أي أراد أن يعود لسياسة أبي بكر، فتوفي قبل ذلك.
- حمى عمر أرضاً لخيل المسلمين، إن عمر أمم بلغة العصر اليوم أرضاً لصالح المسلمين وهي المعروفة عند الفقهاء “بأرض الحمى” وهي أرض منع فيها التملك والاستعمال الخاص وخصصت لرعي مواشي المسلمين وخيول الحرب ودواب الصدقة.
- وقد وضع عمر قواعد مالية تحول دون الشطط وتسد القصور الذي قد يؤدي إليه الجمود، فكان إنشاء بيت المال وتدوين الدواوين وفرض العطاء ووضع التنظيم الإداري والفني لذلك، حتى قيل أنه أول من وضع الموازنة العامة في الدولة الإسلامية وأتبع ذلك بنظام دقيق للرقابة والتقييم، فحافظ على الأموال العامة وضبط المصروفات وطبق فكره المالي الذي يقضي بأن المال لا يؤخذ إلا من حله ولا يوضع إلا في حقه وما أحد إلا وله في هذا المال حق، وما أحد أحق به من أحد [7].
وكان لفترة حكم عمر بن الخطاب ”رضي الله عنه” مواصفاتها التي أرست معالم الدولة وأهمها:
أ. أصبح للمسلمين جيش ثابت، بعد أن كان الناس يدعون للجهاد حتى إذا انتهى الجهاد عادوا إلى أعمالهم وذويهم ولهم نصيب من الغنائم.
ب. أصبح للدولة المترامية الأطراف موظفون يقومون بأعمال ثابتة ويأخذون عليها أجوراً ورواتب.
ج. أصبح هناك خراج وهو إيراد ثابت يرد لبيت المال فيحفظ ليصرف منه على مر الشهور.
د. دخلت تحت سلطان المسلمين دول وممالك كبيرة مما يستتبع قيام الدولة بخدمات وأعمال تستلزم إنفاقاً.
كل ما سبق من تراتيب أيد ما ذهب إليه الخليفة من تدوين الدواوين، لحفظ الأموال وإحصاء المستحقين وتوزيع الأموال عليهم، كما كان الديوان يؤدي العمل الذي أطلق عليه القلقشندى “كتابة الأموال” (المحاسبة اليوم)، ويذكر والماوردي أن الديوان موضوع لحفظ ما يتعلق بالسلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأضاف ابن خلدون مهام أخرى للدواوين منها حفظ حقوق الدولة من الداخل والخارج، وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم….
اجتهاد عمر بعدم تقسيم الأرضين:
إن من أهم التطورات المالية التي حدثت في عهد عمر رأيه بعدم تقسيم الأراضي العظيمة المفتوحة، وكان القرار مالياً تأمين مورد مالي ضخم، من مصدرين الخراج من غلة الأرض والجزية ممن استغلوا الأرض اقتصادياً ، ومن الناحية الإدارية والتنظيمية، فقد سوى بين المسلمين الحاضرين والمقبلين في مستقبل الأيام ورتب عمل ونظام جديد لم يسبق إليه، فضلاً عن توسيع أملاك الدولة. إلا أن هذا الاجتهاد لم يظهر لباقي الصحابة كما ظهر لعمر ودار النقاش بينهم طويلاً حتى ذكر أنهم كادوا يقتتلوا بالسيف إلى أن شرح الله صدورهم لدليل عمر من القرآن وبعد تأييد كبار الصحابة لرأيه ذا المنافع الآنية والمستقبلية.
ومما كان أن سأل بلال وأصحابه – رضي الله عنهم- عمر بن الخطاب ”رضي الله عنه” قسمة ما أفاء الله عليهم من العراق والشام، وقالوا له:اقسم الأرضين بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العساكر،فأبى عمر عليهم ذلك إباء شديداً ورفض مطلبهم وجعله ملكاً للمسلمين عامة سواء منهم من كان موجوداً وقتها أولم يكن موجوداً بعد،وسواء منهم من شارك في فتحها أو لم يشارك فيه واستدل لما رآه بثاقب فكره وعظيم اجتهاده بقوله تعالى:” مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ” [8].
والمتأمل في هذه الآيات يجد أنها جمعت في فحواها بين ما أفاء الله على رسوله خاصة، وما أفاء الله من القرى كلها عامة، إلى ما خص الله به المهاجرين ثم الأنصار، وإلى ما قسمه الله سبحانه وتعالى لمن جاء بعدهم من عامة المسلمين .
لذلك تجد عمر ”رضي الله عنه” يقول مستنبطاً مدللاً على اجتهاده فيما ذهب إليه : ” قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه”.
ومما قاله مبرهناً على أرجحية ما يقول مخاطباً عقولهم وقلوبهم: “فإذا قسمت أرض العراق بعُلُوجها [9]، وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور؟ وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل العراق والشام؟
فلما أكثروا عليه طلباً للقسمة وطمعاً فيها قائلين له: ” تَقِف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا، ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟ كان لا يزيد على أن يقول لهذه الجموع الغاضبة غير المتبصرة نظره العلمي والإدراك الاجتماعي :هذا رأيي
ورأيُ عمر جاء في قوله : وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها ، وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئأً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي من بعدهم ”
وبناء على ما أداه فهم عمر واجتهاده من كتاب الله تعالى اختار بعد فتح السواد: سواد العراق وبلاد الشام، الوقف على عامة المسلمين من المقاتلة والذرية ومن يأتي من بعدهم جيلاً بعد جيل، دون القسمة، وأيده على ذلك بعض الصحابة كعثمان وابن عمر وعلي وطلحه، ومستشاروه من الأوس والخزرج مما قواه على ما ذهب إليه قائلاً لمن خالفه : “كيف أقسمه لكم وأدع من يأتي بعدكــم بغير قسم” ،وروي عن زيد بن أسلم أنه قال : “أما والذي نفسي بيده، لَوْلاَ أنْ أتركَ آخرَ الناسِ بَبَّاناً ليس لهم شيءٌ، ما فُتِحَتْ عَليَّ قريةٌ إِلاّ قَسَمْتُها كما قَسَم النبيُّ ﷺ خيبرَ ولكّني أترُكُهَا خِزَانةً لهم يَقْتَسِمُونَها [10].
ولم يجد الصحابة مفراً من تزكية رأي عمر ”رضي الله عنه” وقد وضح الحق لذي عينين فأيدوا رأيه، وقالوا: نعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن الثغور وهذه المدن بالرجال ويجري عليهم ما يَتَقَوُّوُن به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم .
قال أبو يوسف [11] والذي رأى عمر ”رضي الله عنه” من الامتناع من قسمة الأرضين بين من افتتحها، عندما عّرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك توفيقاً من الله، كان له فيما صنع، وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين، وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم، لأن هذا لو لم يكن موقوفاً على الناس في الأُعطيات والأرزاق لم تُشحن الثغور، ولم تقوَ الجيوش على المسير في الجهاد، ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خَلَتْ من المقاتلة والمرتزقة والله أعلم بالخير حيث كان .
ومما تقدم يتبين تطور الفكر المالي في عهد عمر، فقد حقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فإذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة كانت الأخيرة هي الأولى بالرعاية، كما يسجل له الإبداع في اجتراح الحلول لمشكلات مستجدة غير مسبوقة في بيئة الصحابة وغير مخالفة لشرع الله، وقد كان تميزه ليس في الفنيات الإدارية فقط بل وفي المالية أيضاً، ويشهد لميزان قواعد مراجحته في الفكر المالي قوله [12]“.. ألا وأني ما وجدت صلاح ما ولاني الله إلا بثلاث: أن يؤخذ بحق، وأن يعطى في حق، وأن يمنع من باطل، ألا وأني في مالكم كولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف”.
[1] أبو بكر الطرطوشي، سراج الملوك، المطبعة الخيرية مصر، ط1، ص106.
[2] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، المطبعة الحسينية المصرية، ط1، ج4، ص162، وج5، ص32.الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدَيْنيه، مطبعة نهضة الوطني، القاهرة، د0ط، 1298هـ، ص199. أبو يوسف،القاضي يعقوب بن إبراهيم، الخراج، دار الشروق، بيروت، تحقيق د.إحسان عباس، ط1، 1405هـ-1985، ص46.
[3] ابن خلدون، المقدمة، ص170-171.
[4] سورة الحديد، آية 10.
[5] سورة النساء، آية 95.
[6] الجهشياري، أبو عبد الله محمد بن عبدوس بن عبد الله ، الوزراء والكتاب، مطبعة البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، ط1، 1357هـ-1938م، ص191.
[7] بركات والكفراوي، الاقتصاد المالي الإسلامي، ص117-118، بتصرف.
[8] سورة الحشر، الآيات 7-10.
[9] العلج الرجل غير المسلم، وجمعها علوج.
[10] صحيح البخاري.
[11] أبو يوسف، الخراج، ص24.
[12] الماوردي الأحكام السلطانية، ص222.