إدارة زليخا

بقلم الدكتور سمير الشاعر                                                                              

إدارة زليخا “إزليخا”

 

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا…[يوسف21] الآية.

أسند قطفير (أُطفير) وكان أمين فرعون وخازنه، لزوجته زليخا عندما عاد للبيت بيوسف، مهمة إدارية عملية سيتابعها عليها، وهي: أن أكرمي منزله ومقامه عندك. ويحفظ له المؤرخون أنه أحد أهم أصحاب الفراسة، لتفرسه في يوسف.

نهضت الزوجة التي لم ترزق بالولد، بالمهمة إلى أن كان ما كان وأرادت أن ترميه بالتهمة، فغلب أمر يوسف المحفوظ بحفظ الله، حتى شهد شاهد من أهلها، فوجدت نفسها عند أول اتهام على يد زوجها وأمام حاشيته، ثمثاني اتهام من نسوة في المدينة، إلى أن كان اعترافها قبل أن يصبح عزيز مصر، بما كان وتم تنقية ساحة يوسف البيضاء من بعض غبار قد يكون باق في أذهان أناس ما.

إن التصرف الإداري السابق على الاتهام الأول، قرار خاطئ، استجرها إليه الشيطان للكيد بيوسف عليه السلام، رغم تكرارها المحاولة مع موقن بالله قائلاً: {… معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي}، أي: ما أنا الذي أخون من رباني وآواني في داره وبيته، ولا بالذي يظلم نفسه ويعصي ربه.

بعد الاتهام الأول سيطر عليها الحنق والغضب، فقد كسرت كلمتها، وسفهت أمام جزء من حاشيتها وزوجها، وبتفكيرها حينها “أينتصر علي مخدومي” فاتخذت قرار بأنها لن تتركه، وبدأت بوضع بدائل الكيد بيوسف.

إلا أنها فوجئت بما هو أصعب، تناولت سيرتها ألسنة النساء، وهي العزيزة المنيعة في قومها ومقامها كزوجة أحد كبار أعوان فرعون، وهو ما لا تقبله على نفسها وأهلها، وهي العفيفة المترفعة عن فعال العبيد، رغم اشتهار عجز زوجها.

فانتقلت للكيد بمتناوليها من النساء، وكانت ذا ذكاء وفطنة، فحضرت أمراً يكون الدليل قائم فيه، وهنا لم تنتبه رغم قدراتها الإدارية أنها شُغلت عن يوسف بما هو أكثر إيلاماً، أي لم تتعظ واستمرت في محاولاتها للكيد، غير أن أولوية هجوم النساء عليها أخرت قليلاً خطة الإيقاع بيوسف.

فاهتدت لخطة دعوة النساء لمجلس سمر لا تريده كغيره، واختارت ضيافة تحتاج فيها المدعوات لاستخدام سكين، وهنا أمرت بشحذ السكاكين بطريقة خاصة، ثم قدمت لهن الضيافة وتناولن السكاكين كمدعوات يأكلن ضيافتهن، فلما اطمأنت لانغماسهن في استخدام السكين أدخلت عليهن يوسف عليه السلام بعد تدبير مسبق منسق بخطة تباغتهن فيها، وكان لها ما أرادت.

فما أن رأى النسوة يوسف وما خصه الله به من جمال انجذبن نحوهن، حتى تعطلت بعض حواسهن كما يقال في لغة اليوم لصالح حواس أخرى، فقلن “حاشا لله ما هذا إلا ملك” أي ليس هذا بجمال بشر بمقاييسهن وحتى أنهن تفوهن بكلام يلتمسن فيه العذر لزليخا، كل هذه اللحظات والسكاكين المشحوذة اتخذت طريقها في أيديهن وهنا لا يدرين كأنهن مغيبات.

فهنا نطقت صاحبة الدعوة “فذلكن الذي لمتنن فيه” فاستفقن من ذهولهن وأدركن أمرين أن السكين قد فعلت فعلتها، فعضوا على جراحهم رغم الدماء وأقررن بالأمر الثاني وهو عفة زليخا إلا أن الأمر أكبر من الطاقة.

ولم يتوقفن عند مؤانسة زليخا التي رددت نعم “لقد راودته عن نفسه فاستعصم” إلى أن قالت “ليكونن من الصاغرين” أي إن لم يطعني، وهنا أدخلها الشيطان رغم رجاحة رأيها وحسن تدبيرها مدخلاً أعمق خبثاً في الكيد ليوسف فعادت لمربع الكيد الأول بعد أن أنهت لمصلحتها الاتهام الثاني مع النسوة.

غير أن النسوة أرادوا الاعتذار لها عملياً فانتهضن يدعون يوسف لإجابة طلبها، واتبعن دعوتهن بالتهديد بأنها ستدخلك السجن، قال راجي رضا ربه لما رأى التواطؤ عليه من عدة نساء بعد أن كان من واحدة ” رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن.. [يوسف 33] الآية. فاستجاب له ربه، دعواه، فقل المكر به، وزاد الأمر على زليخا.

وقعت زليخة بشر تدبيرها من حيث أنها ستنفرد بيوسف والتي تظن بإصرارها سترغمه على ما تريد، بعد أن أسكتت النساء وتحصنت بمؤازرتهن، وبرر لها الشيطان أنك عذرت الآن ولست بوضيعة كما كان يقال بل عدت الرفيعة المقام والعزيزة الجانب. ولكن شاء الله أن يدخل يوسف السجن وما عاد تحت سيطرتها وخاب مسعاها في الإصرار وما تبقى لها إلا أخبار الحادثة.

ولكن الرحيم بعبادة العادل في ملكه، دبر الأحداث التي ستعيد يوسف إلى الساحة من أوثق الأبواب وأمنعها، وطلبه الملك ليكون معيناً له ومستشاراً بعدما استشعر رجاحة عقله وعمق علمه كيف لا وهو من فسر رؤيا عجز عنها كبار أهل البلاط من المختصين، هنا أراد يوسف وبالحكمة إعادة محاكمته كون الظروف الآن تغيرت وهناك من سيستمع لظلامته، وأراد أن يعقد الملك المحاكمة فيما نسب إليه من كلام النسوة، قبل أن يخرج من السجن، وعقدت المحاكمة التي أظهرت طهارة وعفة نبي الله يوسف عليه السلام وباعتراف صاحبة الشأن نفسها طائعة مختارة أنها فعلت ما كان ولكنه استعصم ورفض.

وتأتي أهمية هذه المحاكمة وقبل خروجه من السجن، أنه أكد أنه ليس بخوان ولا بمتتبع غير اللائق من التصرفات والأمور، كل هذا استعداداً لما للتكليف الجديد الذي سينهض به يوسف من إدارة اقتصاد مصر، عملياً ما كان له أن ينال هذا المنصب وعلى سمعته بعض الغبش أو الغبار المتوهم. فالعامة ستتقول والحاشية ستمنع توليه بكل طاقتها، غير أنه بعد المحاكمة أتى بقبول الجميع دون أدنى شبهة ثقة، وهذا مناط الأعمال سابقاً واليوم. والحاضر ينبئ بموقع الثقة من الاقتصاد والأعمال للأفراد والدول.

أما عن الجولة الإدارية الأخيرة، التي برأت فيها زليخة يوسف، فقد عادت لرشدها بعد هذه السنين وعرفت بمراجعة قراراتها أنها أخطأت وعندما لا حت لها الفرصة اتخذت القرار الصائب، معترفة بطهر يوسف، وأكدت أنها ليست بخائنة أو وضيعة، وأخبر الله عنها في القرآن أنها قالت طامعة برضى يوسف عنها “ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين” [يوسف 52] الآية.